«احفظها زى ما هى.. خدها كده ومش عايز مناقشة»!!..

ظللنا مئات السنين نعلى من هذه الشعارات ونبرز ونجمل ونزين كل ما قاله التراث منتمياً إلى هذه المدرسة القمعية فى التفكير والتى تهيل التراب على أعظم منحة منحنا الله إياها ألا وهى نعمة العقل، وتم دفن تراث العقل فى مدافن الصدقة مجهولة العنوان لصالح إحياء تراث الخرافة والتواكل واللاعقلانية.

فى عصر الازدهار الإسلامى عندما اعتلى العقل والمنطق والفلسفة عرش الفكر وصنع الحضارة الإسلامية، تقلصت مساحة الخطوط الحمراء التى اقتحمها وتجاوزها الفلاسفة والشعراء والفقهاء وحتى رجال اللغة والنحو!..

هل سألت نفسك قارئى العزيز فى يوم من الأيام: لماذا نرفع الفاعل وننصب المفعول؟!، أعتقد أنه لم يدر بخلدك أبداً أن تسأل هذا السؤال، ولا يمكن أن يكون قد طرحه عليك مدرس اللغة العربية فى يوم من الأيام، فأنت قد آمنت بأن هذه هى اللغة، وهذا هو النحو، وكما يقولون بالعامية ده سلو البلد والناس بتوع زمان قالوا كده ولازم نقول آمين!

وظللنا نحفظها كده ونصمها كده وخلاص، لكن لك أن تتخيل أن هناك من المسلمين القدامى من سأل هذا السؤال وغيره من الأسئلة عن كل ما تخيلناه بديهيا فى النحو والصرف، وحاول أن يبحث ويعقلن ويمنطق النحو واللغة!!..

هناك فى تراثنا من لم يكتف بالحفظ والتلقين والصم، بل حاول أن يستخدم العقل، هدية الرب للعبد، والجنة التى منحها لنا على الأرض بل داخل جماجمنا، هناك من تجاسر وتجرأ على أن يسأل ويواجه ويجتهد فى التفسير، رجل اسمه ابن جنى.

أراد ابن جنى فى كتابه العظيم «الخصائص» أن يحول المسموع إلى معقول، ما تواتر بالسماع نستطيع أن نجد له تفسيراً عقلياً وتعليلاً منطقياً، لا يهم إذا كان هذا التعليل سيقبله عقلك الآن أم لا، المهم هو أن هناك رجلاً حاول أن يسيطر العقل، ويفسر مجالاً كنا نظنه أبعد مجال عن المنطق والعقل وهو مجال النحو، ولنقرأ ماذا قال مثلاً فى مسألة رفع الفاعل ونصب المفعول، يقول ابن جنى: «ذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته، وذلك ليقل فى كلامهم ما يستثقلون، ويكثر فى كلامهم ما يستخفون!».. جرب أنت عزيزى القارئ ما هو الأصعب أن تقول «الرجل» بالضم وتزم فمك وشفتيك إلى الأمام، أم «الرجل» بالفتح التى تنطقها دون أى جهد وكأنك تتنفس، حينها ستجد كلام ابن جنى أقرب إلى المنطق ويثاب عليه بأجرى المجتهد.

لم يقف ابن جنى عند هذا الحد فى تطبيق المنهج العلمى على اللغة والنحو، ولكنه وضع تحت مجهر العقل مسائل كثيرة، مثل لماذا يكثر الأصل الثلاثى فى اللغة العربية؟، وما هو الفرق بين القول والكلام؟، وهل الاسم أسبق أم الفعل أم الحرف؟، حتى جرس ونغم الكلمة حاول ابن جنى أن يخضعه للمنهج العلمى، ويقارن بين صوت الحروف والفعل الذى تعبر عنه الكلمة مثل فعل خضم للأكل الرطب مثل البطيخ مثلا، وقضم للصلب اليابس، لتحس مع ابن جنى بأن كل كلمة منهما معبرة بالضبط عن طريقة الأكل ونوع المأكول!!، ليجد ابن جنى علاقة رابطة حسب قوله «بين مسموع الأصوات ومحسوس الأحداث»!!

كل من اهتدى بالعقل هو أمام نفسه، لنقرأ هذا المعنى عند ابن جنى فى قوله «فكل من فرق (بضم الفاء وكسر الراء) له عن علة صحيحة، وطريق نهجه، كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره»، يقصد الخليل وأبا عمرو - من علماء اللغة - ويستشهد بقول الجاحظ العبقرى الذى يلخص مأساتنا اليوم «ما على الناس شىء أضر من قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئاً».